سؤال الاسئلة في هذه المرحلة والسؤال المطلوب طرحه على كل مرشح لمسؤولية في الدولة وكل متابع وكل مختص في الشأن التونسي هو : افاق برنامجه واطروحته وسط الازمة الراهنة المركبة التي تعيشها بلادنا.
إذا انطلقنا من انتفاضة 2011 وبقطع النظر عن الربيع العربي، وإذا اتخذنا مواقف واضحة من الثورات الملونة ومن الاستراتيجيات التي تقف وراءها، نجد ان المعطيات التاريخية تبرز بمفردها حقيقة موصوفة، وهي ان سقوط النظام ومغادرة طبقة سياسية للحكم وتفكيك منظومة كاملة تم دون حصول اي تحول نوعي في طبيعة العلاقة بين الحكم والمجتمع.
ما حصل في الواقع هو اننا نجد في كل مرة قطاعا من "العائلة السياسية" استأثر بالحكم واقصى قطاعا اخر. والهامّ هنا ان العلاقة بين نظام الحكم والمجتمع بقيت عموديةً، على الرغم من ان دستور 2014 وحتى الدستور الصغير للمرحلة الانتقالية من 2011 الى 2014 كلاهما كرس النموذج البرلماني -لكن على مقاس الاسلام السياسي الذي عوض التجمع الدستوري الديمقراطي-، من خلال شكل جديد للتحكم في آليات الدولة وفي مفاصل الساحة السياسية…
ايضا في المرحلة الانتقالية تماما كما هو الحال في دستور 2014 مثّل البرلمان مركز العقل السياسي المدير للدولة. وهذا يبرز ان الدولة كانت تشتغل بعقلين، عقل اداري وعقل سياسي : مركز العقل السياسي اصبح آنذاك البرلمان ولم يعد المركز قصر قرطاج.
هذا التحول اضعف المنظومة التنفيذية، واضعف سلطة الرئيس. أما سلطة الحكومة فاصبحت محكومة من البرلمان اي من الطرف الاكثر صلابة وتماسكا داخل البرلمان اي حركة النهضة.
هذه الهندسة فجرت نزاعا حول الصلاحيات بين رئيس يفتقد لصلاحيات الحكم وبين حكومة تخضع مباشرة لتزكية البرلمان ولرقابته. فكانت فترة ما اصطلح على تسميتها بالعشرية السوداء وهي في الواقع حكم النهضة وفق صريح عبارة راشد الغنوشي بعد سقوط حكومة النهضة ( اعتصام الرحيل وتصريحه بان النهضة غادرت السلطة ولا تزال في الحكم).
هذه المرحلة تميزت بجملة من السمات ابرزها اهمال الملف الاقتصادي وسوء التصرف في موارد الدولة وكل ما تبع هو نتاج لتلك المرحلة. هذا اضافة الى موروث الازمة الهيكلية من النظام السابق.
السمة الثانية تكمن في ان هذه المرحلة تبعتها حالة من الفوضى كانت اقرب الى انفجار المكبوت ، وتتمظهر خاصة على مستويين : المستوى الاعلامي والمستوى السياسي.
الفوضى السياسية تشكلت في غياب النواميس والاعراف او هي بالاحرى نتاج لغياب النواميس والتقاليد والاعراف. وتجسدت هذه الفوضى في اتفاق باريس بين الشيخين كما قيل (راشد الغنوشي والباجي قايد السبسي)، اتفاق التف على نتائج انتخابات 2014 من اجل اتفاق على تقاسم المواقع داخل الحكم، اتفاق سيّء فوّت على البلاد فرصة تجذير التجربة الديمقراطية بإخراج حركة النهضة الى المعارضة بطريقة سلمية وان يكون هنالك ديناميكية سياسية ديمقراطية سليمة.
المصالح وتقاسم المواقع وتجنب الاشكاليات رهانات دفعت بالباجي قايد السبسي الى اجهاض التناوب السلمي على السلطة. لكن النهضة كعادتها انتهت الى الانقلاب على الباجي قائد السبسي بدعم يوسف الشاهد الذي جاء به الباجي قائد السبسي بنفسه لاقصاء اطراف اخرى.
باختصار ودون ان اواصل في سردية وقائع هذه المرحلة التي توصف اليوم بكونها سوداء لان المؤامرات ومؤامرات البلاط والمؤامرات المضادة والتدخلات الخارجية السافرة والمعلنة، كانت الشخوص الاساسية في هذا المشهد. وما يمكن قوله ان اقلية معلومة تحكمت في الاعلام وفي السياسة خلال تلك المرحلة وان هذه الاقليات الشبيهة بالقبائل كانت تتفق فيما بينها حول الادوار وتقسيم مناطق النفوذ في البلاد . اكيد ان الديمقراطية لا يمكن ان تكون بهذه الصيغة وبهذه الهندسة وبهذا الاخراج.
25 جويلية كان متوقعا ؛ لا متوقعا من الناحية المادية في تاريخه واطرافه والياته لكن كانت هنالك حالة من الترقب والانتظار في الداخل والخارج.
الاتحاد الاوروبي كان يتذمر من غياب الشفافية في ادارة القروض والهبات التي تمنح لتونس … الجهات المانحه كانت تطرح ايضا سؤالا حول موعد بدء الاصلاحات الهيكلية في الاقتصاد التونسي. والكل يذكر تصريحات سفير الاتحاد الاوروبي في تونس باتريس برغاميني
حول الاقتصاد، الاقتصاد الريعي وحول الاسر التي تتقاسم الاقتصاد وتحتكر قطاعاته ...
ثمة من يعترض على 25 جويلية كونه جاء من خارج سياق الالية الدستورية وانه كان في الامكان الاصلاح من داخل دستور 2014. هذا الاعتراض لا ياخذ بعين الاعتبار ان حركة النهضة في نقاشات معها حول مستقبل النظام السياسي كانت تعترض على الذهاب الى نظام رئاسي بل كانت تعتبر ان النظام الرئاسي لا يقود الا الى الاستبداد. والحال ان استبداد الاحزاب، شهدته المجتمعات الاكثر ديمقراطية تحت نظام البرلماني. والمرحلة الانتقالية في تونس كانت بلا منازع مرحلة هيمنة حركة النهضة من خلال البرلمان.
25 جويليه إذًا، برز كضرورة وكحتمية تاريخية. لكن الاشكال هنا هو ان اصلاح المسار السياسي من المفروض الا بخرج عن جملة من الخطوط الحمر؛ اولها طرح الملف الاقتصادي في اتجاه اجتماعي تحرري من اجل خلق الثروة وتمكين الباعثين الشبان والمؤسسات الصغرى والمتوسطة وتحفيزهم على المبادرة الحرة ودفعهم نحو النمو وخلق الثروة ومواطن الشغل مع سن قوانين مانعة للاحتكار وللفساد عموما...
محاربة الفساد لا يمكن ابدا ان تتحقق بضرب المؤسسات الاقتصادية وبتعطيلها، بل بالاحرى بتسوية ملفات رجال الاعمال بطريقة سريعة ومرنة ومنع كل اشكال الاحتكار والكارتالات العشوائية، وبتمويل المشاريع ذات القيمة المضافة العالية وخاصة منها المصدرة …
الملاحظة الاولى هنا انه من المفروض ان يُعطى الملف الاقتصادي صدارة الاهتمام والاولوية باعتبار ان الديمقراطية لا يمكن ان تنجح في مجتمع فقير متشنج خائف جائع يسوده التوتر والصراع والحقد الطبقي. فالديمقراطية حاجة الحاجات الاقتصادية … الديمقراطية بما هي عدالة مستقلة تضمن الملكية وتحمي المصالح وتمكن من حرية التعبير وتسمح بالتعدد والاختلاف والتنوع وتضمن بالتالي للمستثمر المحلي والاجنبي الثقة وسلامة املاكه وراس ماله وودائعه. لذلك كانت الديمقراطية تاريخيا اختراع البرجوازية في العالم الاوروبي والغربي.
الملاحظة الثانية تتعلق بالخلل الخطير في منهجية 25 جويلية في الحرب على الفساد وهو انها منهجية حرب لا يمكن ان تكون ناجعة اذا ما تحولت -وقد تحولت- الى تدمير ممنهج للمؤسسات. فمقاومة الفساد يبدأ أساسا من الرأس بتغيير مناهج الحوكمة، بضمان الشفافية وبمقاومة الاسباب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية للفساد … كما ان الاجور المتدنية في مجتمع استهلاكي هي ايضا من مسببات الفساد...
المسألة في الحقيقة اخطر واعمق من ان تختزل في بعض الشعارات الرنانة بينما الفكر الكسول يسارع بالتبسيط الهزيل ليتمكن من ايهام الشعب بحل القضايا المعقده:
المستوى الثاني هو المستوى السياسي، حيث لا يمكن ان توجد ديمقراطية دون مجتمع مدني حر ونشيط ودون احزاب سياسية ودون شخصيات مستقلة. فالامر يتعلق بديناميكية، اي بحالة من الحرية في مستوى التعبير والتنظيم ، في حدود ما لا يمس بالامن القومي.
وموقفي في هذا السياق ان تونس لا مستقبل لها خارج النظام الديمقراطي وان الديمقراطية هي الحالة السياسية الوحيدة التي يمكن من خلالها ان نكون نموذجا جادّا يتبناه العالم في المنطقة وفي العالم.
ولان التجربة البرلمانية كانت فاشلة وانتهت الى تعميق الازمة، فان النظام السياسي الانسب في تونس في تقديري والاكثر انسجاما مع تراثنا وشخصية شعبنا هو النظام الرئاسي : نظام يعادل بين شرط الاستقرار والانتظام وبين الحرية والتعددية والديناميكية صلب المجتمع وفي البرلمان والاعلام الحر.
ليس ثمة ما يدعو الى وأد كل المراكمات السياسية التي تحققت والتي تمثل لا محالة مكسبا لتجربة جماعية هامة ومفيدة تقي الاجيال القادمة خطر المغامرة في تجارب عشناها من قبل وانتهينا بصددها الى دروس هامه.
ولا تزال النخب تقود مجتمعاتها … ولا تزال المعرفة تشكل السلطة في مجتمع دولي لا مكان فيه للجهل والكسل والشعبوية .
ان جوهر تفكيري هو التطلّع الى المستقبل انطلاقا من تقييم موضوعي لكل المراحل السابقة، بعيدا عن التحامل والحقد. لان الحقد لا يمكن ان يبني مستقبل تونس وان الكراهية لا يمكن ان تعيدنا الى موقعنا في مدار الامم المتقدمة والراقية.
إن توحيد القوى الحية في مجتمعنا حول برنامج وطني للانقاذ سيكون مهمتي الاولى من اجل ان تستعيد تونس مكانتها بين الدول ومن اجل ان يتجدد الامل ويتحقق لدى عموم مكونات شعبنا الامل في حياة كريمة وحرة وفي مستقبل مزهر ومزدهر.
د/ ليلى الهمامي
تونس/ ماي 2024
تعليقات
إرسال تعليق